ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة مؤيدا منصورا، فلما كان
في سبد الصهباء أعرس بصفية بنت حيي، فأقام ثلاثة أيام يبني عليه بصفية، ثم صنع حيسا
في نطع صغير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: "آذن من حولك".
قال أنس: فدعوت الناس على وليمته على صفية، وما كان فيها خبز ولا لحم، وما كان فيها
إلا أن أمر بلالا بالأنطاع فبسطت، فألقى عليها التمر والأقط والسمن وهو الحيس،
فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة وطأ له خلفه، ثم جلس عند
بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته وقد مد الحجاب بينها وبين الناس. قال
أنس: فسرنا حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أحد فقال: "هذا جبل يحبنا ونحبه".
ثم نظر إلى المدينة فقال: "اللهم إني أحرم ما بين لابتيها بمثل ما حرم إبراهيم مكة.
اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم". وفي رواية: فلما أشرف على المدينة قال: "آيبون
تائبون عابدون، لربنا حامدون". فلم يزل يقول ذلك حتى دخل المدينة.
وفي مرجعه إلى
المدينة سار ليلة من الليالي، حتى إذا كان من آخر الليل نام هو وأصحابه كما في صحيح
مسلم وموطأ مالك عن سعيد ببن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند مسلم عن
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة، حتى إذا
أدركه الكرى عرس وقال لبلال: "اكلأ لنا الليل". وصلى ما قدر له. ونام رسول الله
وأصحابه. فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه،
فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم
الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله فقال:
"أي بلال". فقال بلال: "أخذ بنفسي الذي أخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله بنفسك.
فقال: "اقتادوا رواحلكم شيئا". ثم توضأ رسول الله
وأمر بلالا
فأقام الصلاة فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا
ذكرها، فإن الله قال {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}" قال يونس: وكان ابن شهاب
يقرأها: للذكرى.
وفي رواية لمسلم فقال: "هذا منزل حضرنا فيه الشيطان". وفيه: ثم
صلى سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة. وفيها من الفقه أن من نام عن صلاة أو
نسيها فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها. وفيها أن السنن تقضى كما تقضى الفرائض؛ لأنه
قضى سنة الفجر معها وقضى سنة الفجر لما فاتته وحدها.
وكان هديه قضاء السنن
الرواتب مع الفرائض. وفيه أن الفائتة يؤذن لها ويقام، فإن في بعض طرق القصة أنه أمر
بلالا فنادى بالصلاة. وفي بعضها أمر بلالا فأذن وأقام. ذكره أبو داود. وفيها قضاء
الفائتة جماعة، وأن قضاءها على الفور، وإنما أخرها عن مكان معرسهم قليلا لكونه
مكانا فيه شيطان. وفيه تنبيه على اجتناب الصلاة في أمكنة الشيطان كالحمام والحش
بطريق الأولى. انتهى.
وفي صحيح مسلم عن ابن شهاب عن أنس قال: لما انصرف رسول
الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم
التي كانوا منحوهم من ثمارهم، وكان المهاجرون لما قدموا من مكة إلى المدينة قدموا
وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم
أنصاف ثمر أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤنة، وكانت قد أعطت أم أنس رسول الله
عذقا لها. وفي رواية فأمرني أهلي أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله ما كان
أهله أعطوه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن، فأتيت النبي صلى الله
عليه وسلم فأعطانيهن فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وقالت: والله لا يعطيكهن
وقد أعطانيهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أم أيمن اتركيه ولك كذا وكذا" .
وتقول: كلا والذي لا إله إلا هو. فجعل يقول: "لك كذا وكذا" حتى أعطاها عشرة أمثاله.
وفي رواية أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه.